عاجل

د الشيماء المشد تكتب: الذكاء الاصطناعي وجيل ألفا



في عالم رقمي يتغيّر بإيقاع أسرع من قدرتنا على المتابعة، يبرز جيل جديد يُعيد رسم ملامح التفاعل بين الإنسان والعلامة التجارية، إنه جيل ألفا؛ الجيل المولود بعد عام 2010، والذي نشأ بالكامل في ظل حضور طاغٍ للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. هذا الجيل لم يعرف عالمًا دون هواتف ذكية، أو مساعدين رقميين، أو محتوى يفتح بلمسة، ويتحدث إليه كأنه يعرفه. ومع صعود هذا الجيل، تتغير قواعد اللعبة التسويقية التقليدية، ليصبح الذكاء الاصطناعي القلب النابض في تشكيل تجارب تسويقية أكثر تخصيصًا وسرعة وارتباطًا.


فلم يعد التسويق كما عرفناه مجرد فنٍّ للإقناع، بل غدا علمًا ديناميكيًا تدعمه الخوارزميات، والتحليلات التنبؤية، وأنظمة التوصية الذكية. فالذكاء الاصطناعي يتعلّم من سلوك المستهلك، ويتفاعل معه لحظيًا، ويوجه إليه رسائل مبنية على أنماط اهتماماته الدقيقة. والجيل الناشئ اليوم يتفاعل مع هذه التجارب الرقمية قبل أن يتقن حتى مهارات القراءة أو الكتابة، ما يجعل العلاقة بينه وبين التسويق أكثر تعقيدًا، وأكثر قابلية للتشكّل.


في هذا السياق، تظهر ملامح ثورة في تخصيص المحتوى، حيث باتت المنصات الذكية تولّد تجارب فريدة بناءً على تحليل عادات كل مستخدم. على سبيل المثال تقدم منصات مثل YouTube Kids وNetflix توصيات مدروسة بدقة بالغة، لا تناسب فقط العمر أو النوع، بل أيضًا الحالة المزاجية والميول المؤقتة. هذا التخصيص لا يهدف فقط إلى الترفيه، بل يسعى لتعزيز الولاء، والانخراط العاطفي مع المنصة أو المنتج، في تجربة تبدو تلقائية لكنها مدروسة بعناية.


ولا يتوقف التأثير عند المحتوى وحده، بل يمتد إلى آليات التفاعل ذاتها. الروبوتات الذكية، والمساعدات الصوتية، وتجارب اللعب التفاعلي (Gamification)، جميعها تدخل بقوة إلى عالم التسويق لتجعل المستخدم الناشئ شريكًا فعّالًا في التجربة، لا مجرد متلقٍ سلبي. ويكفي أن نشير إلى شركة مثل LEGO، التي أصبحت تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل تفاعلات الأطفال داخل منصتها الرقمية، بهدف تقديم مقترحات مخصصة للعب، بل وضبط توقيتات التواصل مع الطفل بناءً على نشاطه واهتماماته.


لكن وسط هذا التقدم المذهل، تبرز تحديات أخلاقية وتنظيمية لا يمكن تجاهلها. فكلما زادت قدرة الذكاء الاصطناعي على التعلّم والتنبؤ، زادت حاجته للبيانات، وبرزت معه إشكاليات الخصوصية، خاصة حين يكون المستخدم طفلًا أو مراهقًا. هل يمكننا الوثوق بالخوارزميات لرسم خريطة اهتمام جيل لم ينضج بعد؟ وهل تواكب القوانين هذا التسارع التقني؟ القوانين مثل COPPA (قانون حماية خصوصية الأطفال على الإنترنت) تحاول وضع أطر تنظيمية، لكن الواقع يفوق أحيانًا قدرة التشريع على الرقابة.


أضف إلى ذلك، أن الانكشاف الدائم على محتوى مخصص قد يؤثر على الاستقلال المعرفي للناشئة، ويحد من فضولهم الطبيعي خارج ما تقترحه الخوارزميات. وهنا، تظهر مسؤولية مزدوجة على الشركات والمطورين: تقديم تجارب تسويقية جذابة من جهة، والحفاظ على نمو متوازن وسليم للمستخدم من جهة أخرى.


في النهاية، لا شك أن الذكاء الاصطناعي أعاد تعريف التسويق من جذوره. لم نعد أمام جمهور يُخاطب فقط، بل أمام جيل يُشارك في خلق الرسالة، ويتفاعل مع ما يشبهه، ويطالب بتجربة فورية، مخصصة، وذات مغزى. وإذا كانت العلامات التجارية تطمح إلى بناء علاقة طويلة الأمد مع هذا الجيل، فعليها أن تستثمر ليس فقط في التقنية، بل في فهم أعمق لإنسانية هذا الجيل وحدود التعامل الأخلاقي معه.


وبينما يُعاد تشكيل مستقبل التسويق، فإن المسؤولية لا تقع على عاتق المسوّقين وحدهم، بل تمتد لتشمل الآباء، والمعلمين، وصنّاع القرار، وكل من يساهم في بناء بيئة رقمية أكثر وعيًا، وأكثر إنصافًا، لجيل يتكوّن بين أيدينا – ويكوّن المستقبل في الوقت نفسه.


[

بقلم/ د. الشيماء المشد، أستاذ مساعد إدارة الأعمال بكليات الشرق العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى