محمد علي خبير الضرائب يكتب لـ ICTBUSINESS :كيف تقود الرقمنة مسار دمج الاقتصاد غير الرسمي؟

في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية وتزداد فيه الحاجة إلى اقتصاد أكثر شفافية واستدامة، تقف مصر أمام فرصة ذهبية لإعادة هيكلة منظومتها الاقتصادية عبر بوابة قد تبدو تقليدية، كنها اليوم أكثر ابتكارًا ومرون، وهي التيسيرات الضريبية المدعومة بالتحول الرقمي.
فبينما تسعى الدولة إلى تعظيم مواردها المالية دون إرهاق المواطنين، بات واضحًا أن الطريق لتحقيق هذا التوازن يبدأ من دمج الاقتصاد غير الرسمي، الذي لا يزال يشكل ما بين 40% إلى 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقًا لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
خلال السنوات الأخيرة، لم تكتفِ الحكومة المصرية بإطلاق قوانين جديدة، بل أعادت برمجة فلسفة التعامل الضريبي من جذورها، معتمدة على أدوات رقمية وتقنيات حديثة تزيل التعقيد وتُقرّب المسافات بين المواطن والإدارة الضريبية.
فمثلًا، جاء قانون تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر رقم 152 لسنة 2020 ليمنح أصحاب هذه الأنشطة نظامًا ضريبيًا مبسطًا، يستند إلى حجم الأعمال وليس إلى نسب تصاعدية معقدة. وبدلًا من التخمين، أصبح للممول أرقام واضحة ومعاملة ضريبية مستقرة، تسهل عليه التخطيط وتحفزه على التسجيل الطوعي.
كما أتاح قانون التصالح الضريبي فرصة تاريخية للمنشآت غير المسجلة لتسوية أوضاعها السابقة بشروط مخففة، وفتح الباب أمامها للدخول الرسمي إلى السوق، ضمن منظومة رقمية أكثر كفاءة وعدالة.
لكن التحول الأبرز تمثل في إطلاق الفاتورة الإلكترونية والإيصال الإلكتروني، وهما ركيزتان رقميتان غيّرتا شكل العلاقة بين الدولة والممول. فبفضل هذه المبادرات، أصبحت المعاملات التجارية مرئية في الزمن الحقيقي، ما يعزز الشفافية ويمنح الدولة القدرة على رصد الاقتصاد غير الرسمي دون اللجوء إلى الملاحقة أو الضغط، بل من خلال الحوافز والسهولة.
التيسيرات الضريبية لم تكن مجرد قوانين، بل هي رسالة ضمنية مفادها أن الدولة لا تبحث عن الجباية بقدر ما تسعى لبناء جسور الثقة مع الممولين. وزارة المالية أوضحت مرارًا أن الهدف هو الدمج التدريجي والطوعي، لا القهر والإلزام.
والنتائج لم تتأخر؛ ففي عام 2023 وحده، سجلت مصلحة الضرائب أكثر من 500 ألف ممول جديد، غالبيتهم من القطاعات غير الرسمية سابقًا، مثل الحرفيين، وأصحاب المتاجر الصغيرة، وبائعي المنتجات عبر الإنترنت.
هذا الرقم لا يعكس فقط نجاح السياسات، بل يكشف عن تعطش شريحة كبيرة من المصريين لفرصة الاندماج الرسمي في ظل بيئة ضريبية عادلة وسهلة.
لكن، أين تكمن التحديات؟ فرغم ما تحقق، لا تزال هناك تحديات رقمية وبشرية تعرقل الوصول إلى اقتصاد أكثر شمولًا، وأبرزها:
- ضعف الثقافة الضريبية الرقمية لدى بعض الفئات، خصوصًا في المناطق الريفية، أو الأقل اتصالًا بالتكنولوجيا.
- استمرار التخوف من البيروقراطية الحكومية، أو التقديرات العشوائية للضرائب، وهي السمعة التي أضرت بثقة الناس في الماضي.
- الحاجة إلى تعزيز البنية التحتية التكنولوجية لضمان سهولة النفاذ إلى المنظومة الضريبية الرقمية في كل أنحاء الجمهورية.
والسبيل لتجاوز كل هذه العقبات، يجب أن ينطلق من رؤية تشاركية تتبينها الحكومة، مدعومة بإرادة سياسية واضحة، تعزز التعاون مع القطاع الخاص، لتذليل العقبات وتوسيع شبكة الحوافز.
وسط كل هذه التحديثات الرقمية والتشريعات المتقدمة، يبقى العامل البشري هو العمود الفقري الحقيقي لأي إصلاح ضريبي. فنجاح أي تحول رقمي لا يكتمل بدون موظف ضريبي واعٍ، مدرّب، ويمتلك مهارات التيسير والثقة.
لهذا، من الضروري إعادة تأهيل موظفي مصلحة الضرائب، وتمكينهم من لعب دور “سفراء الثقة” بدلًا من مجرد منفذي تعليمات. هؤلاء الموظفون، إذا تم تحفيزهم وتدريبهم، قادرون على أن يكونوا أداة التغيير الأولى في دمج الاقتصاد غير الرسمي، وتوسيع قاعدة الثقة بين الدولة والممول.
فالتيسيرات الضريبية، عندما تُدمج مع أدوات التحول الرقمي، لا تخلق فقط بيئة أعمال أكثر تنافسية، بل تضع الأساس لاقتصاد أكثر عدالة واستدامة، خاصة وأن عملية دمج الاقتصاد غير الرسمي لم تعد رفاهية، بل ضرورة لتحقيق أهداف رؤية مصر 2030، وبناء منظومة ضريبية حديثة تعزز النمو، وتحفّز الاستثمار، وتمنح الجميع فرصة عادلة في سوق رسمي منفتح وشامل.
بقلم/ خبير الضرائب: محمد علي